أعتبرالاجتهاد الحديث المسؤولية قائمة بحد ذاتها وتتوافر بمجرد اثبات الضرر غير المألوف
اذا كانت ترددات وذبذبات الارسال التلفزيونية والاذاعية وكهرباء التوتر العالي تشكل خطراً على الصحة العامة عند تركيزها قريبة من المناطق السكنية، فتتسبب بأمراض خبيثة ومُسْتعصية لا شفاء منها تؤدي الى الموت السريع والاعتلال الموجع، مع ان تلك الابراج تبث أشعَّتها ذهابا فقط، ولا تتلقى، فما هو حال فعل أشعة الأبراج الكهرو- مغناطيسية القريبة من السكان، التي تبث وتتلقى أشعة ارسال الانترنت والخطوط الهاتفية النقالة العاملة دون توقف، ذهابا وأيابا، ليُشَكِّلُ ذلك مَسْحاً متواصلا مؤذياً وضاراً لكل الأجسام المحيطة بتلك الأبراج، وعلى بعد قطر 500 متر من البرج._
علما أن اللجنة الخاصة بالأهالي في وزارة الاتصالات، لا تهتم بما يصيب المواطنين من أضرار صحية تؤدي الى الموت، انما مهامها يقتصر على التواصل مع المستضيفين للأبراج وادارة تركيز تلك الابراج مع الأهالي، وبما لهم من شؤون يحتاجوها._
تلك اللجنة تلتزِم حُكْما ما يقرِّره الوزير، وما تُمْلِيهِ عليها الشركة المنفِّذة، المشرف على أعمالها وزير الاتصالات، الذي ان أراد يبدِّل ويغيِّر في ثواني (كما حصل في صيدا عندما أزيل البرج فورا بعد الاعتراض عليه) والا فانه يملك حِجَجَه بالاستناد وبالاحتكام الى ما يدوِّنه المهندسون في الشركة المنِّفذة من تقارير تقنية، وخلاصات ترفعها شركتا التنفيذ "تاتش وألفا" في لبنان، المكلفتان نشر الابراج، وصيانتها شرط تركيزها وبرمجتها وفقا للأصول التقنية القانونية، التي تفرضها منظمات الصحة العالمية، واللجان العلمية المتخصصة في هذا الحقل، التابعة للأمم المتحدة، لجهة أصول نشرالابراج وحماية البيئة والسلامة العامة للمجتمع والطبيعة على السواء._
لكن ما أدرانا ما يحصل في كواليس تلك الشركتين اللتين تتنافسا على انتشار أبراجهما فوق السطوح وبين الأبنية، وتعقدا اتفاقات جانبية شفوية مع الموظفين المتعاقدين مع الادارات الرسمية من خبراء ومحامين ومهندسين، لتسهيل انتشارها ولتثبيتها في مكانها رغم اعتراض الأهالي، خصوصا أولئك الذين يجيدون السبل الملتوية لاقتناص الفرص، وتثبيت القرارات التي يريدون!_
وما أدرانا ما تفعل تلك الشركتين اللتين تُدْرِكا تماما مدى الأضرار التي تسبِّبها الأشعة للبشر،عندما تركزا الابراج في مكان قريب من السكان، فتعتمدا للوصول الى اقناع المواطن استضافة البرج في دياره، على الاغراءات المالية في وقت هذا الضيق الاقتصادي والمعيشي، بحيث تُغْرِيا المواطنين الذين يجهلون اضرار تلك الأشعة القاتلة المنبعثة من البرج، ونسبة لأضرارها المميتة، بحفنةٍ قليلة جدا من المال سنويا، تتراوح قيمتها بين ال12 وال 24 الف دولار اميركي، هي بمثابة راتب لناطور، اضافة الى تقديمات مغرية مثل تأمين كهرباء البناء كله، وخطوط الهاتف النقال، والصيانة للبناء المُسْتَضِيف، فتوفِّر لنفسها سريعا مَن يستضيف البرج الهوائي فوق بنائه، ومن يحرُسْه أيضا من أي تعطيل قصدي لرفع أضراره، غير آبهة مع من يدير تلك الابراج، لما تسببه تلك الاشعة القريبة من الناس، من قتل، نعم قتل، وامراض مستعصية للمحيط، وبالتحديد لصاحب البناء المستضيف، وللمواجهين للبرج - الجوار، وعلى بعد قطر دائري يصل الى 500 مترمن البرج._
لذلك رغم ان هذا الحكم هو حكم بداية، الا انه يشكل أساسا متينا يمكن الانطلاق منه، في كافة القضايا المماثلة، لدرء أخطار هذا التطور القاتل، ووقفه في ضوء حالات الموت المتفاقمة من السرطان، الذي تسببه بقوة وبسرعة تلك الاشعة النووية وبنسبة عالية جدا، اضافة الى تلوث المياه والمزروعات من القمامة والأدوية المؤذية للتربة. حيث تختبىء الدولة بهيئة وزاراتها المعنية، خلف ذلك الفلتان البيئي، لتكون هي الآفة الكبرى في القضاء على الشعب اللبناني، من خلال نشر الأبراج بين السكان، ذلك الشعب الذي لم تُرْكِعْه الحروب الأهلية، ولا الاقتصادية المدروسة، التي أدت به الى الفقر وما نحن عليه في لبنان...._
الحكم أساس لكل الأحكام
كيف عالجت محكمة الغرفة الاولى للدرجة الأولى في جبل لبنان، في حكمها الصادر عنها في 13 ايلول 2005، تحت الرقم 133، تلك المحكمة التي ترأستها في حينه القاضية أماني سلامه، يعاونها العضوان في الهيئة القاضيان رمزي فرحات ومحمد مكاري، قضية درء خطر الموت عن السكان في بيت ميري، بسبب أشعة عمود الارسال لتلفزيون ال "ال.بي.سي" المؤسسة اللبنانية للارسال انترناسيونال ش.م.ل، وقد ادعى عليها المواطن جوزيف روحانا طالبا نزع البرج الحديدي الكائن في العقار 500 / بيت ميري – المتن، وازالة سائر الأجهزة وكل توابع البرج، واتخاذ كل التدابير لمنع الاضرار الصحية عن المدعي جوزيف روحانا بعدما أصيب نجله بداء سرطان الرئة وتوفي بسبب أشعة البرج، كذلك الأمر بالنسبة الى أحد الجيران في المحلة!_
مدى ثبوت الضرر والتدابير الاحتياطية
بعدما عينت المحكمة خبراء في القضية للاستنارة برأيهم العلمي، قررت البحث في عنصر الضرر الواجب اثباته لترتيب المسؤولية. فتطرقت بداية الى مدى ثبوت هذا الضرر!_
وحيث ان عنصر الضرر هو من العناصر الاساسية الواجب اثباته لترتيب اية مسؤولية، مما يفترض التطرق ايضاالى مدى ثبوت هذا الضرر قبل التطرق في مرحلة أخرى الى باقي العناصر القانونية._
وحيث ترتكز المدعى عليها، المؤسسة اللبنانية للارسال انترناسيونال ش.م.ل، على الدراسات المتناقضة وغير الحازمة، والتي تفيد بأن العلم لم يتوصل بعد الى الاثبات بصورة قاطعة بأن الذبذبات والقوة الالكترومغناطيسية والاشعاعات التي تنتجها هوائيات البث التلفزيوني، تضر بالصحة العامة، وتحديداً تتسَّب بأمراض السرطان المتعددة، لنفي ثبوت الضرر المشكو منه، من قبل المدعي وبالتالي مسؤوليتها._
وحيث بالفعل، فان كل الدراسات العلمية المبرزة من قبل فريقي الخصومة في الملف، تؤكد عدم قيام صلة سببية بصورة حازمة، بين تعرّض الانسان لاشعاعات هوائي البث التلفزيوني على قوة معينة والامراض السرطانية مع تفاوت في النسب!_
وحيث أكد بدوره الخبير المعين من المحكمة مضمون هذه الدراسات، مدليا ان العلم لم يؤكد، ولم ينف العلاقة السببية المذكورة، ما استدعى التوصية باتخاذ تدابير احتياطية بابعاد البشر عن مصدر هذه الاشعاعات مسافة 12 م وهي متحققة في الدعوى._
وحيث سندا لذلك تبقى اصابة المدعي بالأمراض لا سيما مرض السرطان، نتيجة للاشعاعات التي تنتجها هوائي البث التلفزيوني الكائن بجواره، مجرد ضرر احتمالي غير أكيد الحصول، لا يسع المدعي الركون اليه لازالة الهوائي المذكور._
ولكن من المسلم به ان حياة الانسان هي أثمن ما يملك، وهو يبذل كل ما في وسعه للمحافظة عليها وعلى نوعيتها الصحية الجيدة، وبالتالي فهو يخشى الامراض كافة، لا سيما الامراض التي لم يتوصل بعد الطب الى تحديد بصورة جازمة الوسائل الوقائية منها والوسائل العلاجية لها، وبالأخص مرض السرطان الذي هو من أخطر الأمراض التي تخيف البشرية لدرجة تحاشي ذكر اسمه._
وحيث اذا كانت اصابة المدعي بهذا المرض بسبب تعرضه لاشعاعات هوائي البث التلفزيوني المركز بالقرب من منزله، هو مجرد ضرر احتمالي غير ثابت علميا وقوعه بصورة اكيدة كما صار ذكره، الا ان قلق المدعي من مجرد امكانية اصابته بهذا المرض من جراء هذه الاشعاعات انطلاقا من الاحتمال العلمي من تحقق ذلك، وهاجسه من امكانية تحول هذا الاحتمال الى واقعة علمية اكيدة في المستقبل، هما بلا شك اضرار متحققة اكيدة ومستمرة لحقت وتلحق المدعي منذ اكثر من عشر سنوات._
وحيث ان اضافة المدعى عليها مصدراً جديداً بصورة ارادية الى قائمة المصادر المحتملة للاصابة بمرض السرطان، وهو انشاء محطة بث تلفزيوني في قلب منطقة سكنية من شأنها مضاعفة القلق والهاجس الطبيعيين من هذا المرض لدى القاطنين بجوار هذه المحطة، وقد تجسّد قلق المدعي وهاجسه المذكوران بصورة خاصة، باقامته هذه الدعوى بعد عامين من انشاء البرج (1996) وبمتابعته هذه الدعوى لحوالي عشر سنوات لتاريخه._
وحيث ان ما يعزز قلق المدعي وهاجسه المذكورين، اصابة ابنه وجار له بمرض السرطان في سن مبكر، وصدور قرار عن المجلس البلدي في بيت ميري بتاريخ الاول من كانون الاول 1998، قضى بعدم الترخيص لأية انشاءات خاصة باقامة انتينات الارسال ضمن نطاق بلدية المنطقة، وازالة جميع هوائيات الارسال الموجودة حاليا في هذا النطاق، وذلك بناء على الشكاوى العديدة الواردة الى البلدية، وبعدما تبين ان الهوائيات المذكورة تشوِّه البيئة، وتضر بالصحة العامة._
ثم ناقشت هيئة المحكمة ما ينصه المشرع اللبناني، فأضافت الى حيثيات الحكم:
حيث ان المشرع أخذ بنفسه بعين الاعتبار الاضرار التي تنتجها الاشعاعات المذكورة، في المادة المومأ اليها سابقا، عندما أوجب على المؤسسة أخذ الاحتياطات اللازمة لحماية الجوار من الاشعاع الراديوي الناتج عنها، دون ان يحدد كيفية تفادي هذه الاضرار._
وحيث اضافة الى ذلك فان قلق المدعي وهاجسه من اصابته بمرض السرطان بفعل جواره لمحطة بث تلفزيوني بقوة 41،39 / ك.دبيليو.أي.آر.بي/ هما مشروعان لعدم تجاوزهما الحد المنطقي والمقبول لهما نظرا لقرب مسافة المحطة من منزله (ستة امتار)._
وحيث لا يسع المدعى عليها القول ان المسافة الفاصلة بين اسفل الهوائي وسطح منزل المدعي البالغة 42 م تفوق المسافة الاحتياطية التي حددها الخبير لتأمين سلامة الاشخاص الذين يعيشون قرب جهاز البث التلفزيوني والبالغة 12 م، وفقا لتوصيات الجمعية "سي.آي.بي.آر.ان.آي، كون هذه المسافة بحد ذاتها غير متوافق عليها عالميا وعرضة للتبدل بدليل مضمون الدراسة التي برزتها المدعى عليها بنفسها، والصادرة في جريدة "لو موند" الفرنسية، (مرفقة بلائحة 18-6-2001) التي تبين الاختلاف الحاصل بالنسبة للمسافة الواجب تأمينها بين السكان وهوائيات الهاتف الخليوي، وقد حددت الدراسة الحديثة المذكورة في المقالة المسافة ب 300م كحد أدنى، وذلك مع الأخذ في الاعتبار ان الذبذبات التي تنتجها هوائيات الهاتف الخليوي أقل 50 الى 60 مرة من تلك التي تنتجها هوائيات التلفزيون كما ذكر في المقالة عينها._
وحيث بالتالي فان المسافة التي تفصل الهوائي ومنزل المدعي غير كافية لتأمين راحة البال الطبيعية لدى الساكنين بجوار محطة البث التلفزيوني._
وحيث بالتالي فان احتمال اصابة المدعي بداء السرطان نتيجة لذبذبات الهوائي المثبت بجوار مقامه، والذي تتمسك به المدعى عليها لنفي توافر الضرر الاكيد في الدعوى، هو بحد ذاته مسبب لضرر معنوي ساواه المشرع بأي ضرر مادي في المادة 134م.ع.هذا من نحو أول._
وحيث من نحو ثان، بعد ثبوت الضرر المعنوي والشخصي الذي لحق ويلحق بالمدعي، لا بد من تحديد ما اذا كانت المسؤولية في هذا النطاق تقوم على خطأ ارتكبته المدعى عليها ام انها تقوم على مجرد اثبات الضرر المذكور._
وحيث تقوم المسؤولية عن الفعل الشخصي في النظامين اللبناني والفرنسي على الخطأ الواجب اثباته عملا بأحكام المادة 122 م.ع، التي تقابلها المادتان 1382و1383 من القانون المدني الفرنسي، مستبعِداً المشرع النظريات التي تقوم على البدائل عن الخطأ. الا ان تطور الحياة الاجتماعية الذي تَرَافق ايضا مع التطور الالكتروني والآلي، وضع المحاكم امام حالات من الضرر ناتجة عن علاقة الجيرة ضمن التعايش الاجتماعي، غير مشمولة بأحكام المواد القانونية القائمة، مما حث الاجتهاد الى خلق نظرية مضار الجوار،
(La theorie des troubles du voisinage)
التي استندت بادىء الامر الى الخطأ لتصبح فيما بعد مسؤولية موضوعية
(de plein droit)
قوامها مبدأ
“ Nul ne doit causer a autrui un trouble de voisinage”.
وقد عرّف هذه النظرية العلامة
M.G.CORNU
بالتالي:
“Dommages causes a un voisin…qui l’orsqu’ils excedent les inconvenients ordinaires du voisinage,sont juges anormaux et obligent l’auteur du trouble a dedommager la victim quand bien meme ce trouble serait inherent a une activite licite et qu’aucune faute ne pourrait etre reprochee a celui qui le cause.” (vocabulaire juridique , M.G.CORNU PUF 2000)
وحيث بالتالي وجدت النظرية المذكورة لوضع حد للأضرارغير المألوفة التي تصيب الجوار وتقلق راحة جميع المتجاورين ضمن المنطقة السكنية، التي تقتضي بحكم طبيعتها، تخصيصها الهدوء والاستقرار، وبالتالي تضع حداً للاضرار التي تتجاوز ما يمكن تحمله الجوار من أعباء الجيرة الاعتيادية.
( Inconvenients excessifs et anormaux de voisinage)
وذلك بالرغم من اتخاذ المالك او المستأجر المجاور كل الاحتياطات اللازمة لتجنب وقوع الضرر وعدم تعسفه في استعمال حقوقه.
" quand bien meme le responsible s’est conduit comme le bon pere de famille,il reste que son activite se deploie dans des conditions telles qu’elle cause des dommages: elle pourrait etre anormale et donc illicite.Un tel reisonnement est aisement recevable lorsque l’activite porte en elle meme les germes du prejudice qui va en resulter…..elle peut etre alors effectivement anormale quoique non fautive" .
( Encyclopedie Dalloz civil 1x Q-Soc Resp. du fait personnel No 119 p 25)
وحيث سندا لما تقدم، لا يعود للمدعى عليها مسببة ضرر، ان تدحض مسؤوليتها عن مضار الجوار عبر اثبات عدم ارتكابها أي خطأ، اذ أضحى الاجتهاد الحديث ثابتا على اعتبار هذه المسؤولية قائمة بحد ذاتها، وتتوافر بمجرد اثبات الضرر غير المألوف._
"Une cour d’appel saisie d’une demande de reparation de dommages au fond voisin causes par des travaux n’etait pas tenue de caracteriser la faute du constructeur " (cass.3e civ.22/3/2000)
"L’entrepreneur auteur des travaux a l’origine des dommages est responsable de plein droit des troubles "." excedant les inconvenients normaux du voisinge constates dans le fond voisin". ( cass.1er civ.18/3/2003.Mis a jour au 28/4/2004 – jurisclasseur civil out.1382 a 1386 fasc.265 – 10)
وحيث مما لا شك فيه ان المدعي يتعرض لضرر ناتج عن علاقة الجوار بين عقاره وعقار المدعى عليها الذي رُكِّز فيه هوائي لتغطية بثها التلفزيوني في منطقة بيت ميري._
وحيث سنداً لأساس مسؤولية مضار الجوار، فانه أضحى من النافل التطرق الى مدى قانونية وضع الهوائي، أي أن مسؤولية المدعى عليها تقوم بمعزل عما اذا كانت قد استحصلت على التراخيص الادارية اللازمة لاستعمال هذا الهوائي ضمن المنطقة السكنية، وما اذا راعت معايير سلامة الفرد والبيئة لمجرد ثبوت الضرر غير المألوف الذي يتجاوز تبعات الجوار المتسامح بها والمقبولة._
(Revoir: Juriclasseur civil precite No 71 p 17.H L Mazeaud precite de la resp.civile et delictuelle et contractuelle Tome 1 4e ed No 607 p.579.)
وحيث ترى المحكمة ان الخطأ في المسؤولية عن مضار الجوار، يتمثل في بعض الاحيان في ممارسة الفرد لحق ما أقرت له اياه القوانين والانظمة مرعية الاجراء، دون ان تكون هذه الاخيرة قد لحظت تبعات هذا الوضع القانوني. وحيث ان الضرر الذي صار تفصيله يندرج ضمن الاضرار غير المألوفة هذه التي تستتبع مسؤولية المدعى عليها عن مضار الجوار._
وحيث ان الضرر غير المألوف هو الضرر الذي يتجاوز الحد الطبيعي الذي تسببه حالة الجوار الواجب تحمله من قبل المجاورين والذي من شأنه تعكير صفو الحياة ونوعيتها:
"Le trouble ou en d’autres termes l’inconvenient excessif de voisinage est caracterise par une aggravation d’un etat se traduisant par la degradation des conditions de vie ou d’exercise d’une activite professionnelle ou du desordre atteignant le fond voisin ". (jurisclasseur civil precite p.8-9)
وحيث مما لا شك فيه ان قلق وهاجس المدعي من اصابته بالسرطان نتيجة لجواره محطة بث تلفزيوني بقوة
KWERP /41,39/
في قلب منطقة بيت ميري ليس ضررا مألوفا في علاقة الجيرة كونه لا يندرج ضمن الأضرار الطبيعية التي تحدثها هذه الجيرة (كصراخ أطفال، ضجيج اعتيادي لمولد...) وهو يتجاوز الحد المقبول الذي يمكن تحمله من الكافة نظرا لقرب مسافة الهوائي ومنزل المدعي، ولطبيعة الاضرار المحتملة. فلم يأتِ هذا القلق نتيجة لتخوف غير اعتيادي، وغير منطقي.
وحيث ان المعيار المعتمد في القضية لتكييف مألوفية الضرر او عدمه هو المعيار الموضوعي البعيد عن الحالة الذاتية للجار، وهو ينطلق من حالة الشخص المعتاد الذي قد يقلقه العيش قرب الهوائي المذكور، فلا يستنظر من اي شخص تحمُّل مثل هذا الوضع في قلب منزله._
وحيث سندا لذلك تكون المدعى عليها مسؤولة عن الضرر غير المألوف الذي يلحق بالمدعي، بفعل تركيزها هوائي لبثها التلفزيوني لتغطية منطقة بيت ميري بقوة /41،39/ ك.دبليو. اي.آر. بي بالقرب من منزله سندا لنظرية مضار الجوار._
وحيث من نحو ثالث يقتضي التطرق، الى الحل الواجب اعتماده للحد من الضرر المشكو منه، هل يعود للمحكمة الحكم فقط بتعويض بدَلي، أم انه يعود لها ايضا تقرير تعويض عيني عبر الحكم بازالة الهوائي مسبب الضرر كما هو مطلوب._
وحيث من البديهي القول بأن الحكم بازالة مصدر الضرر هو للوهلة الأولى التدبير المنطقي الواجب تقريره لوضع حد للضرر المشكو منه، الا ان مثل هذا الحكم قد يتعارض احيانا مع مبدأ فصل السلطات المكرس في الدستور، كما هو الحال متى كانت المدعى عليها قد استحصلت على ترخيص اداري باستعمال الهوائي المشكو منه. (يراجع المسؤولية عن مضار الجوار – المحامي مروان كساب 1998 ص 378 الى 389)
وحيث باستعادة وقائع النزاع تبين ان المدعى عليها استحصلت بتاريخ 21/3/1997 على مرسوم جمهوري رقم 10057، رخّص لها تملك وادارة واستثمار مؤسسة تلفزيونية من الفئة الأولى، مع الترخيص لها بمتابعة عملها على الاقنية التي تستخدمها حاليا، على ان يتمّ بمرسوم لاحق يُتَّخذ في مجلس الوزراء، تحديد أقنية البث التلفزيوني التي ستخصص لها، والمناطق الجغرافية التي يمكنها استخدام تلك الأقنية فيها._
وحيث تدلي المدعى عليها - بمنازعة المدعي - بأنها سبق أن أودعت في ملف طلب الترخيص الذي أفضى الى صدور المرسوم المذكور، لائحة بالأقنية التي تبث من خلالها لتغطية الأراضي اللبنانية كافة، ومن ضمنها قناة بيت ميري._
وحيث على فرض أن قناة بيت ميري المركزة على العقار رقم /500/ بيت ميري المشكو منها، هي من ضمن الأقنية المقصودة في مرسوم الترخيص المنوه عنه، والتي رخص للمدعى عليها استعمالها، كما تدلي المدعى عليها، يبقى ان لائحة الأقنية المذكورة أعلاه، لم تحدِّد تفصيليا موقع تركيز الأقنية، ولا سيما قناة بيت ميري (أي رقم العقار...)، انما اكتفت بتحديد منطقة البث، فجاء المرسوم عاما بالنسبة الى هذه الأقنية كما صار بيانه، وهذا فضلا عن ان المدعى عليها لم تستحصل على مرسوم من مجلس الوزراء تحدد فيه الأقنية التي ستُخَصًّص لها، والمناطق الجغرافية التي يمكن استخدام تلك الأقنية فيها، كما تقرَّر في المرسوم الجمهوري._
وحيث بالتالي ان الحكم باستبدال مركز الهوائي موضوع الدعوى من العقار رقم/ 500/ بيت ميري الى عقار آخر ضمن نفس منطقة البث، وخارج المنطقة السكنية، لا يتعارض اطلاقا مع المرسوم رقم 10057/1997 كونه لا يعطل مفعوله بالترخيص للمدعى عليها، باستعمال قناة البث في بيت ميري، فلا يتعرّض هذا التدبير للاختصاص الوظيفي للقضاء الاداري، كونه لم يقرر ازالة الهوائي من منطقة بيت ميري، كما رخص في المرسوم الجمهوري._
وحيث كان يفترض على المدعى عليها، وهي الوسيلة الاعلامية الرائدة في مجال المدافعة والمحافظة على حقوق الانسان، ان تبادر من تلقاء نفسها الى استبدال موقع الهوائي المشكو منه، بعد قيامها بمفاضلة بسيطة بين تكبدها نفقات استبدال هذا الموقع وبين اراحة بال منطقة سكنية برمتها._
وحيث على هَدْي ما تقدم يقتضي الزام المدعى عليها باستبدال مركز هوائي بثها التلفزيوني الكائن في العقار رقم /500/ بيت ميري، من هذا العقار الى عقار آخر ضمن نفس نطاق بيت ميري، انما خارج المنطقة السكنية قدر المستطاع، بشكل يراعي الأنظمة والقوانين والدراسات القائمة، وذلك خلال مهلة 3 أشهر من تاريخ ابرام هذا الحكم (مقارنة مع فترة انشاء وتركيب جهاز الارسال المذكورة في تقرير المدعى عليها المرفق بتقرير الخبيرين) تحت طائلة غرامة اكراهية يومية قدرها 500 الف ل.ل._
وحيث يقتضي رد سائر الاسباب والمطالب، لا سيما طلب ازالة المولدات نظرا لعدم ثبوت تسبّبها بالأضرار وهي موضوعة ضمن غرفة عازلة للصوت والداخون مثبت على البرج الحديدي بارتفاع 30 م._
لذلك تحكم:
1 - الحكم بالزام المدعى عليها باستبدال مركز هوائي بثها التلفزيوني في العقار رقم / 500/ بيت ميري الى عقار آخر يقع ضمن نطاق بيت ميري، انما خارج المنطقة السكنية قدر المستطاع، وذلك خلال ثلاثة أشهر من تاريخ انبرام هذا الحكم، تحت طائلة غرامة اكراهية قدرها خمسماية الف ل.ل عن كل يوم تأخير._
2 – رد سائر الأسباب والمطالب الزائدة او المخالفة._
3 – بتضمين المدعى عليها كل النفقات._
يبقى ان نؤكد ونلفت الى ان كل الأنظمة والقوانين والمبادىء الحقوقية في العالم تراعي حقوق الانسان، بل تسخِّر كلَّ الاختراعات والتطور لخدمة الانسان، انطلاقا من ميزان العدالة الذي يساوي الحقوق الانسانية بكل القوانين والاجتهادات والانظمة العالمية. فأين نحن من هذا التطور الذي يُسْتَخْدَم لقتل اللبنانيين خلسة؟!